مثل إسلامي حي على التواصل الثقافي بين الشعوب

08/09/02م بقلم/ 

لندن: عارف علوان/بقلم

قوافل المهاجرين المسلمين الأوائل التي عبرت نحو أفريقيا حملت معها القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية
هذا الكتاب، رغم تواضع مادته، يحمل دعوة مغرية للباحثين والأثاريين العرب لتوجيه أنظارهم إلى بقعة من الأرض لم تمتد إليها أزاميل وفؤوس المنقبين بعد، إنها اريتريا، التي يصفها المؤلف محمد سعيد ناود بـ (طريق الهجرات والديانات إلى افريقيا).
لقد اهتم المؤرخون العرب قديماً بحسن معاملة ملك الحبشة (النجاشي) للمهاجرين المسلمين الذين عبروا البحر الأحمر في سنوات الدعوة الأولى هرباً من مضايقات قريش أو تهديدهم، من دون أن يلتفتوا إلى تضاريس السطح الجغرافي الكبير الذي يحمل اسم (الحبشة) آنذاك، الممتد من الصومال إلى وسط السودان، مروراً بجيبوتي واريتريا، مما جعل الأسماع تعتاد لفظ الحبشة لدى الكلام عن منطقة جنوب شرق افريقيا برمتها.
ومع ظهور الحدود التي خططتها جيوش الاستعمار الاوروبي لهذه الرقعة الكبيرة التي اطلق عليها في ما بعد (القرن الافريقي) ظل اعتزاز العرب وتقديرهم لسلوك النجاشي محصوراً بالدولة الجديدة التي حملت اسم (اثيوبيا) من دون غيرها من شعوب وممالك الأراضي الأخرى الممتدة على طول الساحل الغربي للبحر الأحمر، وكانت (الحبشة) واحدة منها، وأكثرها عمقاً إلى الداخل. إلاّ أن الهجرة المذكورة حملت معها، ونثرت في طريقها آثاراً أخلاقية وقيماً متطورة نبتت وترسخت في الارض الواسعة المحيطة بإثيوبيا، إذا دُرست بشكل علمي يمكن أن نتعرف على الدور الثقافي الشفاهي في نقل التمدن، الذي يفوق هنا ما فعلته أعمال الغزو أو الترهيب.
وفي هذه المرحلة التي تختلط فيها أصوات الجدل مع أصوات المدافع حول ما يسمى بالصراع بين الثقافات، بعد أن تعرض العرب والثقافة الاسلامية إلى طعنة في صميم وجهها الأخلاقي نتيجة النشاط الارهابي الأعمى، يقدم تاريخ الساحل الغربي للبحر الأحمر نموذجاً حياً ورائعاً للتواصل السلمي بين الشعوب، إذ أن قوافل المهاجرين المسلمين الأوائل التي عبرت نحو أفريقيا حملت معها القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية البناءة التي نادى بها الإسلام، ولم تحمل خطابات سفك الدماء للإرغام، ولا السيوف القاطعة للإخضاع، لذلك وجدت صدىً عميقاً في نفوس المجتمعات الساحلية لأفريقيا الشرقية، وهي مجتمعات عُرفت، كما يشير المؤلف، بطيبتها وسرعة قبولها للغريب الذي لا يسعى إلى إلحاق الأذى بها، أو السيطرة عليها.
لقد خلفت تلك الهجرات وراءها أقواماً عرباً عاشوا على السواحل، وتعايشوا مع السكان ثم امتزجوا بهم، قبل أن ينتشروا إلى الجنوب والشمال، وأثمر وجودهم تلاقحاً ثقافياً انعكس في ما بعد على نمط العلاقات ونوعية الحياة العامة في المنطقة. وفي هذا المجال يدلل المؤلف على بلوغ المجتمع في اريتريا (قبل دخول الاستعمار الأوروبي) مرحلة متميزة من التمدن، تمثلت في وجود قوانين تنظم الحياة والعلاقات بين الناس وشؤون الاسرة والقضاء والبتّ في المنازعات ومنع الاعتداء على ممتلكات وأعراض الغير، وتصل في تطورها ودقتها إلى التحكم في الأرض الزراعية وكيفية توزيعها.
هذه القوانين، التي أشار إليها الباحث الإيطالي (كونتي روسي) أوائل القرن الماضي، تعكس الوجه الثقافي للأديان عندما يستجيب شعب ما للقيم الحضارية النافعة التي تبشر بها.
إن قراءة التاريخ يمكن أن تستمر من خلال صفحات يتجدد عهدها مع ظهور أدلة وبراهين أكثر حداثة، تكشفها الحفريات وعمليات تقصي الآثار عن الشعوب. فقد تعاقبت على الساحل الاريتري عدد من الحضارات الخارجية، بدءاً باليونان الذين منحوا اريتريا اسمها الحالي، ثم الفرس والرومان والعرب، حيث ازدهرت في القرن السابع الميلادي حضارة اسلامية على الشاطئ وفي جزر (دهلك) ونشأت خمس ممالك اسلامية.
والحضارات السريعة التي نبتت في منطقة القرن الافريقي، جميع بذورها الدينية (اليهودية والمسيحية والإسلامية) انتقلت من الجزيرة العربية، وهذا ما عنيته بالدعوة المغرية للأثاريين العرب لنفض الغبار من فوق المدن المطمورة والآثار الظاهرة لكتابة تاريخ جنوب شرق أفريقيا، وإلقاء الضوء على نماذج الحضارات التي شيدت في المنطقة على ضوء معلومات أكثر عمقاً وأشد وضوحاً.
وإذا كانت اليهودية، بسبب ميلها القديم إلى التخفي والعزلة، لم تترك حضارة عمرانية بارزة ولا ثقافية متطورة في القرن الافريقي، بعد أن حصرت نفسها في التعبد الصارم بين قبائل (الفلاشا) المعروفة بتخلفها الشديد، إلاّ أن الاسلام والمسيحية خلفا على طول الساحل وصعداً إلى المرتفعات بصماتهما الثقافية العميقة على حياة وعادات السكان.
ويدعم المؤلف في هذا الكتاب الجانب التوثيقي الذي أراده، بتثبيت عناوين وأسماء الأماكن القديمة التي ما زال الناس يتناقلون عنها الاعتقاد بأنها آوت في الماضي العوائل العربية المعروفة من المهاجرين، وتلك التي بقي سكانها أحياء حتى اليوم وهم ينحدرون في الأساس من نفس الفترة، وصور البيوت الآيلة للسقوط التي تحولت إلى أماكن للتبجيل، أو بنيت قربها أو حولها مساجد للصلاة. وما ينطبق على الثقافة الإسلامية في الساحل وغرب اريتريا، ينطبق أيضاً على الثقافة المسيحية التي عبرت من شمال الجزيرة العربية (الشام) إلى منطقة الهضبة، حيث تقوم أطلال مملكة (أكسوم) شاهداً على حضارة عاشت لفترة طويلة وظلت ثقافتها الدينية في وجدان السكان إلى هذا اليوم بعد تهدم رموزها العمرانية. لقد ظل الساحل جاذباً لأنواع أخرى من الهجرات، سببها: (1) خصوبة التربة التي شجعت الكثير من العرب على الانتقال في مراحل الجدب التي تصيب الجزيرة. (2) وجود لغة للتفاهم إذ يتكلم السكان الاصليون العربية إلى جانب لغتهم المحلية (التجري) التي تسود المفردات العربية 50% منها. (3) حركة التجارة في الموانئ الاريترية. (4) وأخيراً النهضة الاقتصادية التي شهدها ميناء مصوع بعد الاحتلال الايطالي لاريتريا. لهذا شملت الهجرات الأحدث زمناً العمال والتجار وصيادي الاسماك، الذين استوطنوا الساحل الغربي وكونوا جاليات مستقرة، وبالمقابل كان الكساد يدفع الاريتريين للهجرة إلى الجانب الشرقي من البحر الأحمر بحثاً عن العمل في فترات الإزدهار التي تشهدها الجزيرة العربية.
ومثل كل الهجرات في التاريخ، كان لانتقال العرب إلى الساحل الغربي وجهه المأساوي أيضاً، فقد ظلت جزر دهلك، وهي أرخبيل من مائة جزيرة، مركزاً لتجمع المهاجرين وانطلاقهم إلى السواحل، وعُرف عن الأرخبيل حرارته الشديدة، ووعورة أرضه وقلة المياه فيه، لذلك تحوّل في فترات الصراع داخل الدولة الإسلامية بعد وفاة الخليفة عثمان إلى منفى يرمي فيه كل طرف خصومه المعارضين، إذا لم يذهبوا إليه باختيارهم. من ذلك إن موجات كبيرة من المهاجرين قصدت جزر دهلك عندما تمكن الأمويون من حسم الصراع لصالحهم ضد العلويين. وأثناء الصراع الدموي بين عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية نزحت مجموعات من أنصار الزبير إلى نفس الأرخبيل حين قتل الزبير في مكة على يد الحجاج، وما ان انقلب الأمر على الأمويين بانتقال الحكم إلى العباسيين عام 132 هجرية، حتى انتقل جزء منهم إلى دهلك ومنها إلى مصوع وشمال اريتريا والسودان. بينما كان مضيق باب المندب في الجنوب ممراً للمهاجرين الأقدم عهداً ممن عبروا أثناء أو بعد دولة سبأ.
لذلك يشير المؤلف إلى وجود نقوش على العديد من القبور المهملة الآن في جزر دهلك، وآثار بارزة في منطقة (قوحيتو) جنوب اريتريا، تؤكد ذاك العبور القديم، والقاسي، الذي ترك آثاره الثقافية المهمة على سكان اريتريا الحاليين، المسيحيين والمسلمين.
الكتاب: اريتريا طريق الهجرات والديانات ومدخل الإسلام إلى أفريقيا.
المؤلف: محمد سعيد ناود.
الناشر: الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية (الكويت).

 

جريدة الشرق الاوسط

Back